د/ محسن زهران
أستاذ التخطيط بجامعة الإسكندرية

طالما دعونا وأكدنا أن مستقبل مصر المشرق يرتكز استراتيجياً على انطلاق شامل ومتكامل لعجلة الإنماء والإعمار حسب منهج علمي سليم وخطة قومية طموحة للتنمية البشرية الهادفة على كافة المحاور السياسية والعمرانية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية والثقافية. إن المواجهة الجريئة المتحدية فرض عين على الكافة بغية التغلب على الصعاب والأزمات الطاحنة الناتجة عن التخلف والزيادة السكانية المطردة المساهمة في تضاعف التردي وبطء عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وزيادة البطالة وانتشار العشوائيات والمتسببة فى أزمات في الطعام والمأوى مما أدى إلى ضياع الأعمال وزوال الآمال في مستقبل الأجيال

إن ما أثبتته المؤتمرات والندوات العلمية واللقاءات الفكرية الكثيرة فى مصر والتي شاركت وأسهمت بفعالية فيها هو الضرورة الواجبة لإعادة توزيع السكان بعيداً عن المحور التقليدي للوادي والدلتا والذي يتكدس فيه بكثافة مرتفعة جداً حوالي 95% من سكان مصر الواحد والسبعين مليون نسمة, تاركين 95% من مساحة الوطن التي تربو على المليون كيلو متر مربع غير مأهولة فارغة داعية لأطماع الغير !!! إن إعادة توزيع السكان في أرجاء الأوطان شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً في إطار شبكات قومية متكاملة للطرق وشرايين الحركة والنقل والاستيطان والاستقرار والإنتاج حسب تخطيط عمراني قومي شامل يحقق الأهداف القومية الاستراتيجية في الأمن والأمان والتأمين والاستمرار والإنماء والأعمار في عالم القطب الأوحد في عصر العولمة الحالي. إن الأمر حيوي وخطير لا مناص منه ولا فكاك لتحقيق الأمل في المستقبل وإرساء أسس التنمية البشرية المتكاملة على المدى القصير والمتوسط والبعيد، خاصة أن عدد سكان مصر سيصل إلى ما يربو على التسعين مليوناً في 2020.

إن النفس لتعجب والعقل يتيه فيما نفعله لأنفسنا بأنفسنا. وأمانة الواجب والأسس العلمية تشير إلى أن إنشاء 22 مدينة جديدة قريبة وقرينة من مدن قديمة مع التخطيط للمزيد منها لا يجيب على التحدي ولا يشفي الصدور ويهدي لا ريب إلى تردي الأمور لتسببه، في تصاعد الأزمات وزيادة المطامع واستفحال المشكلات في الإسكان والعشوائيات وارتفاع الأسعار.

إن إعداد مخطط عمراني تنموي قومي جسور لمصر الكبرى يقتضي خلق مناطق وأنوية جذب وأقطاب إعمار وإنماء منتشرة على صفحة الوطن الواسعة بعيدة عن تكدس العمران الأخطبوطي الحالي. ولنبدأ بالمحور العمراني الشرياني للساحل الشمالي بطول 1100 كم وآخر شرقي سلسلة جبال البحر الأحمر بطول حوالي1300 كم, مع تدرج في إنشاء محاور متكاملة منتشرة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً, تعتمد على الموارد والمعالم الطبيعية والبيئية والاقتصادية الواعدة لكي تغطي رقعة الوطن بالكامل حتى 2050. لقد كان أول محور عمراني رائد في المنطقة في القرن الماضي (Urban Corridor) بإنشاء شركة قناة السويس, وبالتوازي مع حفر القناة وافتتاحها في عام 1869, ثلاث مدن وهي بور سعيد / الإسماعلية / السويس مرتبطة بالشريان العمرانى المدعم بالطرق البرية والحديدية والاتصالات شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً. وكان هذا مثالاً ليس له مثيل في ربط الهدف الاقتصادي بالهدف التنموي العمراني – كما تشهد على ذلك وثائق الشركة المؤممة – إذ حققت أهدافاً عديدة محلية وقومية وعالمية وجذبت حركة العمران شرقاً بعيداً عن الدلتا وأنشات شرياناً حيوياً للنقل والتجارة والعمران في إنجاز غير مسبوق قلب تاريخ مصر والمنطقة والعالم منذئذ رأسا على عقب, وحمل معه حتى الآن أوزاراً وخيرات, وحروباً وأزمات ,ومصاعب وتحديات !!

إن المرء ليأسى ولا ينسى,أذ أن كثيراً من الفرص السانحة قد ضاعت, ومن الآفاق قد تبددت, كالسراب أو كالضباب، ذلك أنه بعد حرب أكتوبر المجيدة لاحت أنوار فجر الانفتاح ولمعت إنطلاقات الإنماء والإعمار باستثمارات تعدت مئات المليارات في إنشاء البنية التحتية والفوقية وتخطيط وتنفيذ عشرات المدن الجديدة, خصوصاً حول القاهرة العاصمة الكبرى, وأخر في الشمال. ومن أسف أنه لم يتم توجيه هذا الاستثمارات والأعمال الضخمة وقتئذ لتحقيق مخطط استراتيجي قومي عمراني تنموي هادف وجسور لكي يخلق أنوية ومحاور عمران وانتاج جديدة وبعيدة عن المحور التقليدي للوادي والدلتا بغية جنى الارتقاء وفتح الآفاق لشعب نام فقير صابر طالما أجل آماله وأرجأ أحلامه من أجل تحرير وعون الآخرين إلا أن الرؤى قد غابت والأحلام تبخرت والجهود تبعثرت والآمال تلاشت من كثرة الأقوال وقلة الأفعال. أن الواقع لا يكذب ولا يخدع, إذ لم تتبلور برغم الإنفاق المهول بعد الانفتاح رؤى عمرانية وتنموية جريئة وغير تقليدية ولم تتحقق هوية عمرانية واعدة أو أنوية تنموية رائدة بل كررنا أخطاء ومساوئ المدن الجديدة في بلدان أخرى !! هل من المعقول أن القاهرة الكبرى ليس لها مخطط شامل ملزم للكافة حتى الآن برغم عمل عدة مخططات لم تعتمد ولم تنفذ ؟ هل من المقبول أن يتم إنشاء حلقات من المدن الجديدة مرتبطة بأحبال سرية بالمدينة الأم تعتمد عليها دوماً دون إنفصال أو إنفطام ,وتؤدي إلى تعظيم مشاكل العاصمة التي تنوء بالأحمال وتشكو من الأزمات وألأهوال؟ بل أن البعض يتطوع باقتراح ربط المدن الجديدة بخطوط المترو وشبكات النقل لكي تزيد الطين بلة والمريض علة. وتنفق الدولة المليارات على كباري علوية وأنفاق للسيارات ومترو الأنفاق لعلاج الأمراض العمرانية المستشرية التي تسببنا نحن فيها ونتجت عنها الامتدادات العشوائية والأخطبوطية والاختناقات المميتة !! ولازال التكدس مسيطر والسحب سوداء والتلوث مستفحل والنفوس حيارى والناس كالسكارى ؟! هل من المبادئ والأصول أن نسمح بالبناء حول الطرق الدائرية فور الانتهاء من إنشائها لكي نسارع بالإعلان عن إنشاء طرق دائرية أخرى خارجها ، وهكذا دواليك في دائرة مفرغة، مع أنه من المعروف وجوب تحريم البناء حول الطرق الدائرية،مع تنفيذ الحزام الأخضر الذي تمت مناقشته في الثمانيات؟ إننا مازلنا منكبين علي الاستمرار في معالجة الأعراض ومداوات الأزمات والإكثار من الدعوات ! ؟ إن القاهرة الكبرى تخنقها الحلقات وتدور حولها الدوائر وتلتف من حولها الأزمات وتتكاثر فيها الصعوبات والأزمات والحسرات ! وتستمر الأمور كما هي حتى نفيق ونصحو ونسعى من أجل اعتماد المدخل السليم والمنهج العلمي القويم والرؤى التخطيطية الواعدة. لقد أثبتت الدول الأخرى – متقدمة أو نامية – ضرورة بناء مدن جديدة بعيدا عن المدن الأم حتى يستقل الأبناء عن الآباء وتعتمد النفوس على الاكتفاء الذاتي لكافة الأنشطة والمقومات. لقد ثبت من التجارب أن بناء مدن جديدة بالقرب من المدينة الأم يجعلها مخصصة فقط للعمل أو للنوم, خالية من السكان برغم إنشاء مصانع بها وخلق فرص للعمل جديدة, إلا أن جذب المدينة الأم أو المدن المحيطة لا ينافسه جذب والشاهد على ذلك آلاف الوحدات السكنية الخاوية العاطلة في المدن الجديدة ؟! لقد كان من الواجب ربط العمل في المدن الجديدة بالالتزام بالسكن فيها. وبذلك انتفى الغرض من إنشاء المدن الجديدة؟

لقد انتهجت بعض الدول منهجاً ناجحاً بإنشاء عواصم وأنوية إدارية جديدة بعيدة عن العواصم القديمة كما هو الحال في برازيليا العاصمة الرائدة للبرازيل والتي تم تخطيطها وإنشاؤها في الخمسينات في إقليم شاسع قفر بعيداعن الجذب والبريق المعهود لريو دي جانيرو وسان باولو, ونجحت التجربة. إن إنشاء واشنطن كعاصمة للحكم في أمريكا لا يؤثر في إشعاع وتميز مدن كبرى أخرى مثل نيويورك أو بوسطن أو فيلادلفيا أو شيكاغو أو سان فرانسيسكو، فلكل نشاطه وتخصصه وبريقه ودوره الحضاري الرائد وهكذا نجد الأمثلة في أوتوا في كندا وملبورن في أستراليا وأنقرة في تركيا وبون في ألمانيا الغربية السابقة.

إن إنشاء عاصمة جديدة لمصر المستقبل لن يخفت من بريق القاهرة ودورها الحضاري الرائد والمعهود. لقد آن الأوان أن نضع حداً للتضخم الأخطبوطي والسرطان العمراني المستشري في القاهرة الكبرى التي تأوي 20% من سكان مصر وتفوز بنصيب الأسد من الاستثمارات القومية من حيث معدل نصيب الفرد منها. إن المدينة الأم لازالت تنوء بأحمال عشوائياتها وتكدس طرقاتها والتهام الأراضي الزراعية من حولها ومعاناة مرافقها وتردي شبكاتها. وإذا كان الأمر كذلك لماذا نستمر في إيذاء أنفسنا والاستمرار في الإغفال والإهمال، وكيف نسمح باستمرار سوء الأفعال أو نرضى بضياع الأعمال وتبديد الأموال.

إن إنشاء عاصمة جديدة بديلة عن القاهرة الكبرى أمر كثر الحديث فيه وتمت مناقشته منذ الخمسينات, وقد سبق للدولة محاولة إنشاء بديل فى مدينة السادات لتكون عاصمة إدارية إلا أنه تم إهمال الفكرة واستغلال مباني الوزارات الخالية لأغراض تعليمية. إن الأمر الآن لا يستحق التأجيل أو التأويل أو الإغفال، ذلك أن سياسة الدولة حالياً تؤكد على ضرورة التغيير والإصلاح والتركيز على اللا مركزية ووأد البيروقراطية. وبدأت خطوات جدية مشجعة في هذا المجال مع تفويض المحافظين في بعض صلاحيات الوزراء ولكي يتم إنشاء محاور وأنوية جاذبة للتنمية والعمران فإن الأمر يتطلب تغيير جذري وأساسي في السياسات والبرامج والخطط والمشروعات على كافة الأصعدة في شتى المجالات. ولابد من حسن اختيار موقع جديد بعيد عن العاصمة الكبرى الحالية بمسافة كافية رادعة مانعة لرحلة العمل اليومي ولتحقيق اللامركزية والبعد المانح المانع عن إعالة المدينة الأم. لقد كانت تجربة إنشاء هليوبولس وربطها بالمترو منذ أكثر من مائة عام تجربة رائدة للعمران وقتئذ وبدون تكلفة أو أعباء على الدولة, وهكذا الأمر في المعادي أو المقطم أو غيرها. إن الأمر يقتضي تحديد الهدف والشعور والمواصفات للعاصمة الجديدة واختيار الموقع المتوفر فيه كافة مقومات الحياة والاتصال والطاقة والشبكات والبنيات والموارد ذات الفاعلية في الأداء والتشغيل الكفء ولكي تبزغ شمس بؤرة عمرانية جديدة متجددة تشع حياة ونشاطاً فاعلاً في المناطق الصحراوية المحيطة والتي يتم استصلاحها واستزراعها من أجل إعاشة المدينة, وتزويدها بالغذاء الوفير والهواء النقي. ولن يخفت نور القاهرة الخالدة إذ سنرفع عنها أعباءها ونحمل عنها أوزارها ونبرؤها من أمراضها. وسيكون للعاصمة الجديدة دورها وطابعها الرائد وأنشطتها المتميزة لتصبح بحق مدينة للحكم ومؤسساته وأجهزته وكافة الأنشطة المعاونة والداعمة بما يليق بعاصمة مصر المستقبل. وليكن الأمر على مراحل زماناًً ومكاناً وجالاً. ولنبدأ بمؤسسات الدولة التي ليس لها تعامل يومي مع الجماهير بالانتقال الملزم لها بدءاً بمؤسسة الرئاسة إلى أنظمة ومؤسسات الحكم والإدارة والتحكم والسفارات والمراكز البحثية والجامعات الخاصة والصناعات الإلكترونية والذكية، ففي عصر تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات الحالي القرب المكاني للأجهزة والمؤسسات أصبح أمراً غير مطلوب. إن الشركات العالمية المتعددة الجنسيات تدير أعمالها من بعد بكفاءة في مختلف الدول والقارات يومياً، وكذلك الأمر بالنسبة للصحف العالمية التي يتم طبعها وتوزيعها في نفس الوقت في مختلف أنحاء المعمورة. إن العصر التكنوترونيك الحالي قد أزالت كافة حدود الزمان والمكان في قريتنا الكونية الحالية. إن العاصمة الجديدة يجب أن تشتمل على و تستوعب حدائق العلوم (Science parks) وحدائق الصناعة الذكية (Industerial parks) وحدائق التجارة والإدارة (Business & management parks) وحدائق الترويح والترفيه (Entertainment and recreation parks) . إن العاصمة الجديدة والفريدة لابد لها من هوية جاذبة وطابع متميز , لائقة بعاصمة المستقبل , متعددة الأنوية , متنوعة الأنشطة منتشرة الأقطاب التي تنتظم كاللأليء في نسيج متين و شبكات قوية كالمرافق و النقل و الحركة و الاتصالات علي أعلي مستوي يتناسب مع رؤي و أحلام مصرنا الجديدة الرائدة المتفردة الواعدة.

وقد يكون هناك بديل أخر مؤقت لعاصمة جديدة بإتخاذ إحدي المدن الكبري الواعدة في مصر كالإسكندرية في الغرب أو شرم الشيخ في الشرق أو الأقصر في الجنوب لتكون عاصمة انتقالية حتى يصير إنشاء العاصمة الحلم الجديرة بأم الحضارات.

إن اعتماد إنشاء عاصمة جديدة لمصر جديدة يواكب تحديات و وعود القرن الواحد و العشرين قد أصبح أمرا حالا و عاجلا و لا مناص منه و لا بديل عنه . ولا بد من إعمال الرؤى و تحقيق الأحلام , فالأحلام الكبرى تطالب برؤي و أعمال كبري, غير عادية و غير تقليدية,من أجل الحفاظ علي أمان و تأمين و استقرار واستمرار الأوطان, و تلبية أمال الإنسان, كل الأنسان، وكل إنسان.ومن الضروري إذا اتفقنا أن نعزم الأمور أن نجدد العهد لدولة تحمي ولا تهدد, تصون ولا تبدد, تنشر السلام وتحقق الأحلام وتلبي الآمال. ولابد, والأمر كذلك ,من إعمال وتفعيل التغيير الواجب في الأطر السياسية والتشريعية والقانونية والعمرانية والتنموية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية
دونما إبطاء أو تحوير أو تدوير أو تأجيل. وعلى الله قصد السبيل…


لمزيد من أوراق الأستاذ الدكتور محسن زهران ، يرجى الرجوع إلى الموقع الأصلي
https://mohsenzahran.pylon-soft.com/paper